كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الفائدة الثالثة:
أن الفقهاء بينوا أن السنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات فالمقصود من قوله: {وقرآن الفجر} الحث على أن تطويل القراءة في هذه الصلاة مطلوب لأن التخصيص بالذكر يدل على كونه أكمل من غيره.
الفائدة الرابعة:
أنه وصف قرآن الفجر بكونه مشهودًا.
قال الجمهور: معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الغداة وقبل أن تعرج ملائكة الليل فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت: يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك وتقول ملائكة النهار ربنا أتينا عبادك وهم يصلون فيقول الله تعالى للملائكة اشهدوا أني قد غفرت لهم.
وأقول هذا أيضًا دليل قوي في أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار فبهذا الطريق تحضر في هذه الصلاة ملائكة الليل وملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التنوير فهناك ما بقيت الظلمة فلم يبق في ذلك الوقت أحد من ملائكة الليل فلا يحصل المعنى المذكور فثبت أن قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مَشْهُودًا} دليل قوي على أن التغليس أفضل وعندي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مَشْهُودًا} احتمال آخر وذلك لأنه كلما كانت الحوادث الحادثة أعظم وأكمل كان الاستدلال بها على كمال قدرة الله تعالى أكمل فالإنسان إذا شرع في أداء صلاة الصبح من أول هذا الوقت كانت الظلمة القوية باقية في العالم، فإذا امتدت القراءة في أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء والظلمة مناسبة للموت والعدم، والضوء مناسب للحياة والوجود.
وعلى هذا التقدير فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة ومن العدم إلى الوجود ثم إنه مع ذلك يشاهد في أثناء صلاته انقلاب كلية هذا العالم من الظلمة إلى الضوء ومن الموت إلى الحياة ومن السكون إلى الحركة ومن العدم إلى الوجود.
وهذه الحالة حالة عجيبة تشهد العقول والأرواح بأنه لا يقدر على هذا التقليب والتحويل والتبديل إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقوة الغير المتناهية وحينئذ يستنير العقل بنور هذه المعرفة وينفتح على العقل والروح أبواب المكاشفات الروحانية الإلهية فتصير الصلاة التي هي عبارة عن أعمال الجوارح مشهودًا عليها بهذه المكاشفات الإلهية المقدسة ولذلك فكل من له ذوق سليم وطبع مستقيم إذا قام من منامه وأدى صلاة الصبح في أول الوقت واعتبر اختلاف أحوال العالم من الظلمة الحاصلة إلى النور ومن السكون إلى الحركة فإنه يجد في قلبه روحًا وراحة ومزيدًا في نور المعرفة وقوة اليقين فهذا هو المراد من قوله: {إن قرآن الفجر كان مشهودًا} وظهر أن هذا الاعتبار لا يحصل إلا عند أداء صلاة الفجر على سبيل التغليس فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بمراده.
وفي الآية احتمال ثالث وهو أن يكون المراد من قوله: {إن قرآن الفجر كان مشهودًا} الترغيب في أن تؤدي هذه الصلاة بالجماعة ويكون المعنى كونه مشهودًا بالجماعة الكثيرة ومزيد التحقيق فيه أنا بينا أن تأثير هذه الصلاة في تصفية القلب وفي تنويره أكثر من تأثير سائر الصلوات فإذا حضر جمع من المسلمين في المسجد لأداء هذه العبادة استنار قلب كل واحد منهم ثم بسبب ذلك الاجتماع كأنه ينعكس نور معرفة الله تعالى ونور طاعته في ذلك الوقت من قلب كل واحد إلى قلب الآخر فتصير أرواحهم كالمرايا المشرقة المتقابلة إذا وقعت عليها أنوار الشمس فإنه ينعكس النور من كل واحدة من تلك المرايا إلى الأخرى فكذا في هذه الصورة ولهذا السبب فإن كل من له ذوق سليم وأدى هذه الصلاة في هذا الوقت بالجماعة وجد من قلبه فسحة ونورًا وراحة.
الفائدة الخامسة:
قوله: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا} يحتمل أن يكون السبب في كونه مشهودًا هو أن الإنسان لما نام طول الليل فصار كالغافل في هذه المدة عن مراقبة أحوال الدنيا فزالت صورة الحوادث الجسمانية عن لوح خياله وفكره وعقله وصارت هذه الألواح كألواح سطرت فيها نقوش فاسدة ثم غسلت وأزيلت تلك النقوش عنها، ففي أول وقت القيام من المنام صارت ألواح عقله وفكره وخياله مطهرة عن النقوش الفاسدة الباطلة.
فإذا تسارع الإنسان في ذلك الوقت إلى عبادة الله تعالى وقراءة الكلمات الدالة على تنزيهه والإقدام على الأفعال الدالة على تعظيم الله تعالى انتقش في لوح عقله وفكره وخياله هذه النقوش الطاهرة المقدسة، ثم إن حصول هذه النقوش يمنع من استحكام النقوش الفاسدة، وهي النقوش المتولدة من الميل إلى الدنيا وشهواتها فبهذا الطريق يترشح الميل إلى معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته ويضعف الميل إلى الدنيا وشهواتها.
إذا عرفت هذا فنقول هذه الحكمة إنما تحصل إذا شرع الإنسان في الصلاة من أول قيامه من النوم عند التغليس.
وذلك يدل على المقصود واعلم أن أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب وهي حب الدنيا والحرص والحسد والتفاخر والتكاثر وهذه الدنيا مثل دار المرضى إذا كانت مملوءة من المرضى والأنبياء كالأطباء الحاذقين والمريض ربما قد قوي مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية وربما كان المريض جاهلًا فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمر، إلا أن الطبيب إذا كان مشفقًا حاذقًا فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه فإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وتخفيفه.
إذا عرفت هذا فنقول: مرض حب الدنيا مستولٍ على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وطاعته وهذا علاج شاق على النفوس، وقل من يقبله وينقاد له.
لا جرم أن الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض وحمل الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أول وقت القيام من النوم مما ينفع في إزالة هذا المرض من الوجه الذي قررناه فوجب أن يكون مشروعًا، والله أعلم بأسرار كلامه.
أما قوله تعالى: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} فاعلم أنه تعالى لما أمر بالصلوات الخمس على سبيل الرمز والإشارة أردفه بالحث على صلاة الليل وفيه مباحث:
البحث الأول:
التهجد عبارة عن صلاة الليل فقوله: {فتهجد به} أي بالقرآن كما قال: {قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلًا} إلى قوله: {وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلًا} [المزمل: 2- 4].
البحث الثاني:
قال الواحدي الهجود في اللغة النوم وهو معروف كثير في الشعر يقال: أهجدته وهجدته أي أنمته ومنه قول لبيد:
هجدنا فقد طال السرى

كأنه قال: نومنا فإن السرى قد طال علينا حتى غلبنا النوم وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة الهاجد النائم والهاجد المصلي بالليل وروى ثعلب عن ابن الأعرابي مثل هذا القول كأنه قال هجد الرجل إذا صلى من الليل وهجد إذا نام بالليل فعند هؤلاء هذا اللفظ من الأضداد وأما الأزهري فإنه توسط في تفسير هذا اللفظ وقال المعروف في كلام العرب أن الهاجد هو النائم ثم رأينا أن في الشرع يقال لمن قام من النوم إلى الصلاة إنه متهجد فوجب أن يحمل هذا على أنه سمي متهجدًا لالقائه الهجود عن نفسه كما قيل للعابد متحنث لإلقائه الحنث عن نفسه وهو الإثم.
ويقال فلان رجل متحرج ومتأثم ومتحوب أي يلقي الحرج والإثم والحوب عن نفسه.
وأقول فيه احتمال آخر وهو أن الإنسان إنما يترك لذة النوم ويتحمل مشقة القيام إلى الصلاة ليطيب رقاده وهجوده عند الموت فلما كان غرضه من ترك هذا الهجود أن يصل إلى الهجود اللذيذ عند الموت كان هذا القيام طلبًا لذلك الهجود فسمي تهجدًا لهذا السبب.
وفيه وجه ثالث: وهو ما روي أن الحجاج بن عمرو المازني قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد ثم صلاة أخرى بعد رقدة ثم صلاة أخرى بعد رقدة هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا عرفت هذا فنقول كلما صلى الإنسان طلب هجودًا ورقادًا فلا يبعد أنه سمي تهجدًا لهذا السبب.
البحث الثالث:
قوله: {مِنْ} في قوله: {وَمِنَ الليل} لابد له من متعلق والفاء في قوله: {فَتَهَجَّدْ} لابد له من معطوف عليه والتقدير قم من الليل أي في بعض الليل فتهجد به وقوله: {بِهِ} أي بالقرآن والمراد منه الصلاة المشتملة على القرآن.
البحث الرابع:
معنى النافلة في اللغة ما كان زيادة على الأصل ذكرناه في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} [الأنفال: 1] ومعناها أيضًا في هذه الآية الزيادة وفي تفسير كونها زيادة قولان مبنيان على أن صلاة الليل هل كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم أم لا فمن الناس من قال إنها كانت واجبة عليه ثم نسخت فصارت نافلة، أي تطوعًا وزيادة على الفرائض، وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها {نافلة} وجهًا حسنًا قالا إنه تعالى غفر للنبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكل طاعة يأتي بها سوى المكتوبة فإنه لا يكون تأثيرها في كفارة الذنوب ألبتة بل يكون تأثيرها في زيادة الدرجات وكثرة الثواب وكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب فلهذا سميت نافلة بخلاف الأمة، فإن لهم ذنوبًا محتاجة إلى الكفارات فهذه الطاعة محتاجون إليها لتكفير الذنوب والسيئات فثبت أن هذه الطاعات إنما تكون زوائد ونوافل في حق النبي صلى الله عليه وسلم لا في حق غيره فلهذا السبب قال: {نَافِلَةً لَّكَ} يعني أنها زوائد ونوافل في حقك لا في حق غيرك وتقريره ما ذكرناه.
وأما الذين قالوا: إن صلاة الليل كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا معنى كونها نافلة له على التخصيص أنها فريضة عليك زائدة على الصلوات الخمس خصصت بها من بين أمتك ويمكن نصرة هذا القول بأن قوله فتهجد أمر وصيغة الأمر للوجوب فوجب كون هذا التهجد واجبًا فلو حملنا قوله نافلة لك على عدم الوجوب لزم التعارض وهو خلاف الأصل فوجب أن يكون معنى كونها نافلة له ما ذكرناه من كون وجوبها زائدًا على وجوب الصلوات الخمس، والله أعلم.
البحث الخامس:
قوله: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل وَقُرْءانَ الفجر} وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصًا بالرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنه في المعنى عام في حق الأمة والدليل عليه أنه قال ومن الليل فتهجد به نافلة لك فبين أن الأمر بالتهجد مخصوص بالرسول وهذا يدل على أن الأمر بالصلاة الخمس غير مخصوص بالرسول عليه السلام وإلا لم يكن لتقييد الأمر بالتهجد بهذا القيد فائدة أصلًا، والله أعلم.
ثم قال تعالى: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} اتفق المفسرون على أن كلمة عسى من الله واجب قال أهل المعاني لأن لفظة عسى تفيد الأطماع ومن أطمع إنسانًا في شيء ثم حرمه كان عارًا والله تعالى أكرم من أن يطمع أحدًا في شيء ثم لا يعطيه ذلك.
وقوله: {مَقَامًا مَّحْمُودًا} فيه بحثان:
البحث الأول:
في انتصاب قوله محمودًا وجهان.
الأول: أن يكون انتصابه على الحال من قوله يبعثك أي يبعثك محمودًا.
والثاني: أن يكون نعتًا للمقام وهو ظاهر.
البحث الثاني:
في تفسير المقام المحمود أقوال.
الأول: أنه الشفاعة قال الواحدي أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي» وأقول اللفظ مشعر به وذلك لأن الإنسان إنما يصير محمودًا إذا حمده حامد والحمد إنما يكون على الإنعام فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقامًا أنعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه على قوم فحمدوه على ذلك الإنعام وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليم الشرع لأن ذلك كان حاصلًا في الحال وقوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} تطميع وتطميع الإنسان في الشيء الذي وعده في الحال محال فوجب أن يكون ذلك الإنعام الذي لأجله يصير محمودًا إنعامًا سيصل منه حصل له بعد ذلك إلى الناس وما ذاك إلا شفاعته عند الله فدل هذا على أن لفظ الآية وهو قوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} يدل على هذا المعنى وأيضًا التنكير في قوله مقامًا محمودًا يدل على أنه يحصل للنبي عليه السلام في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل ومن المعلم أن حمد الإنسان على سعيه في التخليص عن العقاب أعظم من حمده في السعي في زيادة من الثواب لا حاجة به إليها لأن احتياج الإنسان إلى دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} هو الشفاعة في إسقاط العقاب على ما هو مذهب أهل السنة ولما ثبت أن لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعارًا قويًا ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى وجب حل اللفظ عليه ومما يؤكد هذا الوجه الدعاء المشهور وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون واتفق الناس على أن المراد منه الشفاعة.